11.19.2008

الإسلام والغرب صراع أم مصالحة



الإسـلام والغـرب
صراع أم مصالحة ؟
بقلم محمد خالد مصلح
المقدمة
دائما, الافــراط والتفريط يمثلان أبشع وأشنع داء يصيب بهما أمتنا الإسلامية فى الماضى واليوم وسيكون كذلك فى أيامنا المستقبلة. ففى الماضى البعيد أفرط الخوارج فى نظرية مرتكبى الكبائر وسقطوا فى هوة الغلو فى التكفير, كما أفرطت المعتزلة فى استخدام العقل فى النظر إلى قضية عقدية وغيرها من القضايا حتى أوجبت على الله ما لا يليق بقدسيـته وعظمته وجلاله. والأبعد من ذلك أفرطت غلاة الشيعة فى تقديس الإمام على كرم الله وجهه واعتبروه نبـيا بل إلها وهو عنهم برىء. أما الفئــة التى فرقوا بين الصـلاة والزكاة فى عهد الصديق فقد فرطوا فى تلبيية تعاليم الاسلام حتى سقطوا فى هوة الارتداد, وهى ما يماثلها الفئة التى نسميها اليوم "بالعلمانيين".
كل من هؤلاء وأولاء لايزالون يقفون حجرا أمام مسير حضارتنا نحو الازدهار. وربما ذلك هو السر فى أن جعلنا الله تعالى تبارك وتعالى أمـة وسـطا وأمرنا بهـا, حيث قال: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.... "
[1]؛ وسط بين الروح والمادة, بين الوحى والعقل, بين الدنيا والآخرة و وسط بين المثالية والواقعية, وسط فى العقيدة والعبادة والأحكام والعقوبات، وسط فى كل شىء لا إفراط ولا تفريط.
ففى ضوء هذه الوسطيه السمحه، تحاول هذه الكتابـه التجسير بين هـذا التفريط وذك الافراط فى فهم العلاقة بين الاسلام و الغرب, خصوصا بعد أن يبلغ الغرب ذروة التقدم المادى والتكنولوجى فى عصرنا هذا، وبلغ المسلمون فى غاية العجز عن أداء رســالتهم الحقيقية.
ففى هذا المضمار بالذات كانت الأمة منقسمة إلى اتجاهين متقابلين:
(أ)- إتجاه يذهب إلى أن تقدم الأمة الإسلامية مرهون بالتفاتها إلى الغرب واتباع خطواته ومناهجه حذو النعل بنعل. يقول الدكتور طــه حسين؛ والذى يعد إمام المتغـربين والمقلدين للغرب فى كتابـه "مستقبل الثقافة فى مصر":
"إن السبـيل واضحة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء , وهى واحدة فذة ليس لها تعدد, وهى أن نسير سيرة الأوربيين و نسلك طريقهم لنكون لهم أنداد, ولنكون لهم شركاء فى الحضارة خيرها وشرها, حلوها ومرها , ما يحب منها وما يكره, ما يحمد منها وما يعاب"
[2].
ويقول سلامة موسى فى كتابه "اليوم والغـد" قائلا:
"إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة, لأنها تقوم على أصل كاذب, فإن الرابطة الدينية وقاحة, فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا, ونحن فى حاجة إلى ثقافـة جديدة أبعد ما تكون على الاديان ......."
[3]. ثم يقول:
"وكلما ازدادت خبرة وتجربة و ثقافة توضحت أمامى أعراض: يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلحق بأوربا , فإنى كلما زادت معرفتى بالشرق زادت كراهيتى له, وشعورى بأنه غريب عنى, وكلما زادت معرفتى بأوربا زادت حبى لها وتعلقى بها , وزاد شعورى بأنها منى وأنا منها, ووهذا هو مذهبى الذى أعمل له طول حياتى سرا وجهرا, فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب"
[4].

(ب)- أما الاتجاه الثانى: فهم الذين فروا هاربا بمجرد أن سمعوا اسم الغـرب يتلى؛ فالغرب وحده أسباب هذا الشقاء وعلة هذه الأمراض المصابة على جسم الأمّـة حاضرا وماضيا, وغلوا فى العدوان وكأنه دم يسرى فى عروق أجسامهم وتغلغل فيها ثم أصبحت طبيعـة خاصة لاتنفك عن ذاتيته رموا كل اللوم على الآخرين وفى النهاية نسوا النقد الذاتى.
تلك هى حالة أمتنا الإسلامية فى فهم العلاقة بين الاسلام و الغرب. إذا كان الأمر كذلك فنحن إزاء سؤال يطرح نفسه، الميتـبادر فى الذهن: "ما هو موقف الإسلام من الغرب فيما ينبغى أن يكون إذن ؟" هذا ما يريد الكاتب معالجتـه فى هذه الكتابة المتواضعة بمشيئة الله.

ماذا نعنى بالغرب؟
ولكى ننصف القول, ما أحوجنا إلى استعراض مفهوم لفظ الغرب، وطبيعته، وموقفه من الإسلام، وسمات حضارته، وآثار هذه الحضارة الإيجابيـة والسلبية للحياة الإنسانية.
أما لفظ الغرب فنعنى به: ذلك المعسكر الذى يشمل كل من الدين المسيحى المحرف واليهود المحرف والمشركين والملحدين, وبما تولد هذه الإيدولوجيات من الأنظمة فى أيامنا هذا مثل اللبرالية والرأسمالية والاشتراكية والصهيونية... الخ، وبها تولد الحضارة المادية النـزعة التى تغزو عالمنا المعاصرة
[5].
فقد بين لنا القرآن الكريم طبيعة العلاقة بين ذلك المعسكر والإسلام؛ وهى طبيعة العدوان المستمر منذ ظهور الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فلنصغى قول الله تعالى: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ"
[6]. وقال: "وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا"[7]. وقال أيضا: " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ ُ"[8]. وقال تعالى: "وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"[9]، " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ"[10].
فهو كما يقول الأستاذ محمد قطب فى كتابه "الصراع بين الفكر الغربى والفكرالإسلامى"، إذن، صراع قديم قدم الإسلام، ووسائل هذا الصراع أيضا قديم كما أن أهدافه قديم أيضا. ولقد بدأ حربهم منذ أول قيام الدولة الإسلامية فى المدينة، والتاريخ يتضمن وقائع هذه الحروب الهائلة التى شنها اليهود من ناحية, والمشركون من ناحية أخرى, ثم النصارى من ناحية ثالثة؛ بمجرد أن أحست الدولة الرومانية بمولد الدولة الجديدة فى الجزيرة العربيـة واستواءها على قدميها؛
أما اليهود فبالكيد والخبث ونشر الأراجيف والشائعات ومحاولة تشكيك المؤمنين فى صدق الوحى وصدق رسولهم الأمين صلى الله عليه وسلم وإثارة الفتن بينهم, وتأريث الخزازات القديمة النائمة وتأليب المشركين عليهم وتشجيعهم على غزوهم واستمالة المنافقين وضعاف الإيمان إلى جانبهم لاستخدامهم فى تفريق الصف ونشر الفتنة والتخاذل فيه, كما حاولوا قتل الرسول أكثر من مرة.
أما النصارى, فقد جهزوا الغزو على الدولة الناشئة والقضاء عليها قبل أن يثبت أقدامها وتنطلق للانفساح فى الأرض، ولما فشلوا عادوا يكرون مرة أخرى فى الحروب الصليبية, ولا يزال هذه النـزعة مغروسة فى أعماق قلوبهم إلى أيامنا المعاصر. يقول كانتول سميث Cantwel Smith المستشرق الكندى المعاصر فى كتابه "الإسلام فى التاريخ المعاصر" "Islamic Modern History" أن أوروبا لا تستطيع أن تنسى الفزع الذى ظلت تزاوله خمسة قرون متوالية , والإسلام يغزوها من المشرق والغرب والجنوب ويقطع فى كل يوم جزءا من أجزاء الأمراطورية الرومانية ويكاد يستولى على العاصمة ذاتها, ذلك الفزع الذى لا يدانيه شىء ولا حتى فزع أوروبا من استيلاء الشيوعية على تشيكوسلوفاكيا عام 1948م"
[11].

وإذا كانت هذه هى طبيعة موقفهم نحو الإسلام، فما هى سمات حضارتهم التى تغزو العالم الأجمع اليوم؟. يقول عنها الدكتور يوسف القرضاوى فى كتابه "الإسلام حضارة الغد"
[12]: إن الحضارة الغربية المعاصرة تقوم على الركائز الفكرية ممتدة الجذور إلى عهد اليونان والرمان وهى تتسم بسمات أهمها:

السمة الأولى هى الغبش فى معرفة الألوهية
فهى ليست رؤية صافية تقدر الله حق قدره, وإنما هى رؤية غائمـة مضطربة تحيط بها الاوهام والجهالات, بل الحق أن الغرب كما يظهر من تاريخه لم يعرف الله جل شأنه معرفة صحيحة, ولم يهتد إلى الايمان الصحيح لخالق الكون ومدبره, لم يعرف حقيقة الألوهية الكاملة, العالمة , القادرة , المريدة, البارة, الرحيم, ذلك لأنه لم يعرف النبوة الهادية والوحى المعصوم معرفة مباشرة فيما علمنا من التاريخ حتى الفلاسفة الكبار لم تكن تصورهم تصورا صحيحا؛ فالإله الذى صوره أرسطو إله مسكين, لأنه لا يحل ولا يربط
الكون, فالاشد منه إله أفلوطين الحديث, فإن إلهه لا يتأمل فى شء حتى نفسه.

أما السمة الثانية هى النزعة المادية.
ونعنى بها, تلك النزعة التى تؤمن بالمادة وحدها وتفسر بها الكون والمعرفة والسلوك وتنكر الغيبيات وكل ما وراء الحسى فهى لاتؤمن بالله وبالإله الخالق لهذا الكون ولا بالوحى ولا با الروح الخالدة ولا بعالم غيبى ولا يقيم المثالية فوق المنافع واللذات إلى ضرة لأن كل هذه الاشياء لا يشهد لها الحسى ولا تهدى إليها الملاحظه والتجربة؛ فالفكر الغربى مادى يحتقر الوحيات ...., حسى لا لايحفل بالمعنويات ......, واقعى لايؤمن بالمثالية.

أما السمة الثالثة هى النزعة العلمانية.
وهى ثمار الخصيصتين السابقتين ولوازمهما, وهى تلك النزعة التى تفصل بين الدين والدولة أو بعبارة أخرى فصل بين الدين والحياة الاجتماعية؛ فالدين فى نظر الغرب علاقة بين الإنسان وربه محلها ضميره الذى بين جنبيه, فإذا خرج الضمير, فلا يجوز له أن يتجاوز جدران المعبد أو الكنيسة‎, وليس من شأنه أن يوجه الحياة بالتشريع وإلزام فرض تعاليمه وإحكامه على المؤسسات التى تحكم المجتمع وتدير دفته من تعاليم وتربية وثقافة وإعلام وإدارة واقتصاد وسياسة و تشريع.

السمة الرابعة هى نزعة الصراع
إن حضارة الغرب تقوم على الصراع، لحمها وسداها الصراع, لا تعرف السلام ولا الطمأنينة ولا الحب. وهو صراع متغلغل فى كل النواحى, متنوع الأشكال، متعدد المجالات, متباين الأسلحة والأساليب, إنه صراع بين الإنسان ونفسه وصراع بين الإنسان ووالاله؛ فالإنسان فى الحضارة الغربية فى صراع مع أخيه الإنسان وهو صراع يأخذ صورا شتى؛ فهو صراع بين الأفراد من أجل منافعهم الفردية المتباينة وهى صراع بين الطبقات والجماعات وخصوصا مع استئثار كل جماعة بالمنافع لأنفسها, وجورها على غيرها واحتقارها لما سواها وهو صراع بين الأمم و الأجناس وخصوصا مع حدة الشعور القومى ونزعة الاستعلاء عند كل أمة ولا يزال ترى أثره فى العلاقة بين البيض والسود وهى صراع بين المؤسسات كالصراع بين الكنيسة الذى انتهى إلى ما عرف عندنا باسم العلمانية".
وفى هذا يقول الدكتور محمد عمارة قائلا: "بل لقد رأى الغرب –ولا يزال يرى- أن الصراع والصدام هو الخيار الرئيسى فى تحقيق هذه الواحدية الحضارية ... وذلك بسبب الصبغة الصراعية الغربية، والتى أفصحت عنها- ثم بررت لها النظريات الرئيسية التى صيغت فلسفة الأنوار الوضعية الأوربية وفكر الحداثة الغربية وثقافتها .."
[13].


والسمة الخامسة هى الاستعلاء على الآخرين والأنانية.
وهى نزعة التى تسرى وتتحكم فى عقول الغربيين كافة فهم يعتقدون أنهم أفضل من غيرهم عنصرا و أنقى دماءا, وأنهم خلقوا ليقودوا و يسود ويحكموا وأن الآخرين خلقوا ليكونا مسودين ومحكومين لهم, هكذا بالفطرة والخلقة.
ولهذا نجد الأوربيين يعتقدون أن أوربا أم الدنيا وأن التاريخ منها وإليها يعود فقد رأينا الاستعلاء العام لدى الاوربيين عامة ينتقل إلى أقطار منها خاصة، كل يزعم أنه الأنقى سلالة والأزكى عنصرا كما صنع "هتلر" Hitler, ورفع شعار "المانيا فوق الجميع" ورفع (موسولينى) "إيطاليا فوق الجميع", ورفع البريطانيون شعار "سودى يا بريطانيا واحكمى" فشأن هؤلاء شأن بنى إسرائيـل الذين يزعمون أنهم بجنسهم شعب الله المختار.
يقول الدكتور محمد عمارة: "فالنزعة المركزية لصيقة بالنموذج الحضارى الغربى، منذ العصر الرومانى، الذى رأى أصحابه أن الإنسان هو الرومانى الحر وحده، ومن عداه برابرة، وأن ما تتدين به الرومان هو الدين الوحيد، وما عداه واجب الاستئصال ... وهذه النزعة المركزية الاستئصالية، هى التى جعلت حتى مفهوم الإنسان فى الحضارة الغربية هو الانسان الغربى وحده! ... ثم جعلت هذا الانسان الغربى –فى عصر الاستعمار- يمارس استئصال الآخر... "
[14].
هذه هى أبرز السمات المميزة لحضارة الغرب, فمع ذلك فقد تركت هذه الحضارة الآثار الإيجابية التى لا يجحدها أى منصف فى الحياة الإنسانية.
لقد استطاعت هذه الحضارة أن تمنح الإنسان قدرات وامكانات لم يمنحها أحد قبله, وما كان يحلم بها فى نوم أو يجول بها خياله فى يقظة, وأن توفر له بذلك وسائل وأدوات وأشياء لم تكن تتهيأ للملوك وسلاطين الدنيا من قبل بواسطة تقدم العلوم الرياضية والطبيعية و تطبيقاتها التكنولوجيا.
لقد اختصرت الحضارة للانسان المسافات وقربت لهم المكان حتى أصبحت الدنيا قرية كبرى تصغر و تصغر حتى أشبه بحارة أو زقاق. إنه الآن عصر الحاسوب الذى بات يقوم بعمليات معقدة هائلة كان الإنسان يقضى فيها سنين وسنين, وهو الآن ينهيها ويظهر نتائجها فى لحاظات, بل يقوم بأشياء ماكانت لتدور بفكرالإنسان لأنها أكبر من طاقاته المعتادة. بل وقد دخل الحياة العلمية الإسلامية, فدخل فى علوم القرآن والحديث وفى اللغة وعلومها وآدابها وغيرها.
ومميزات هذه الحضارة أنها لا تقف جامدة, إنها تنتقل من طور إلى طور، كما أعطت الإنسان الحوافز التى تدفعه إلى الابتكار والانتاج, وصنعت له المناخ النفسى والعقلى الذى يشجع على المضى, وهيأت له الادارة الحسنة التى تساعد على اتقان عمله فتكافئ المحسن, وتعاقب المقصر والمنحرف؛ كما هيأت له مجتمعا ترعى فيه حرية الإنسان الفردى وحقوقه الفطرية, وتصان فيه حرماته فى مواجهة ظلم الحكام وحكم الظلمة وبهذا شعر الإنسان بكرامته وقيمته, وتحرر من الخوف والذل, فأنتج وأحسن وأفاد.
ولقد استطاعت الإنسان فى ظل هذه الحضارة أن يحصل على دساتير تحدد حقوق كل من الحاكم والمحكوم وواجباته و أن يلزم به أهل الحكم و السلطان, وأن تجد من الضمانات ما يكفل استمرار ذلك " الديموقراطية"
[15].

هذه هى الجوانب الطيبة فى الحضارة الغربية, وكلها تتعلق بالوسائل والأدوات والآليات التى يستخدمها الإنسان وهى مع ذلك سلاح ذو حدين يمكن أن يستعمل فى الخير وأن تستعمل فى الشر, كتقارب العلم مثلا, ليس خيرا محضا بل ربما جلب وراءه شرا كثيرا, ولذلك بات العالم يخاف من الآثار المدمرة للبث المباشر مع ما نجدها فيه من الخيرات التى لا تنكر.

لكن اعتمادا على واقع هذه الحضارة فى ديارها الأم, كما تصوره التقارير والأرقام والمشاهدات لمسنا -إلى جوار آثارها الإيجابية- آثارا سلبية, مابرحت البشرية تعانى ويلاتها وتذوق مر ثمراتها. ومن هذه الآثار السلبية نذكرها بالإيجز كما يلى:
الانحلال الأخلاقى، والتفسخ العائلى. ومن أبرز هذه الظاهرة: رجال بعيشون عالة على زوجاتهم المطلقة، وظهور الأمهات للإيجار، والإعراض عن فكرة الزواج أصلا، والأسرة الوحيدة الجنسى، والأسرة الوحيدة التكوين.
ومنها القلق النفسى, ومن أبرز هذه الظاهرة: الساخطون فى هوليود، وظهور حركات التمرد على الحضارة المادية، واكتناب بحياة العزلة، انتحار المراهقين.
ومنها: الاضطراب العقلى، ومنها: الجريمة والخوف
[16].

فلنصغ إذن إلى ما قاله "أرنولد توينبى" محذرا لأجياله من الأخطار التى تكمن وراء هذه الحضارة المادية الصاخبة:
"إن المشاكل التى أحدقت بالحضارة الأخرى وقضت عليها قد وصلت إلى ذروتها فى العالم الذى نعيش فيه وصار مجتمعنا الغربى متورطا فى كثير من الأخطاء والكوارث التى قضت على حضارات كثيرة بعد تاريخها من بدايته إلى نهايته بمثابة كتاب مفتوح"
[17].
هذا وبدراسة طبيعة الفكر الغربى، وسماتها الحضارية ثم آثارها الإيجابية فى الحياة الإنسانية، وآثارها السلبية للحياة البشرية, يمكننا تحديد كيفية التعامل مع الغرب فى نقط وخطوط عريضة، أهمها:
1. إن الاتجاه الأول الذى يدعونا ويحثنا على تقليد الغرب واتباعه شره وخيره, مره وحلوه, اتجاه غير مقبول, لما يولد من ذلك فقدان الهوية, وضياع الشخصية الإسلامية وتكريس للعقيدة, وهو اتجاه الذى انتهجه "منهزموا النفس" أمام تقدم الحضارة الغربية المادية.
ولقد أخطؤوا عندما يظنون أن الاقتداء بالغرب وإعراض كل ما كان عربيا وإسلاميا هو سبب النهوض وعلة التقدم الوحيدة للعالم الإسلامى. وبلاد تركيا خير شاهد على ما قلناه. يقول الدكتور التهامى نقرة:
"ولقد أبان الواقع عن أخطاء أتاتورك وتصوراته التائهة حين استقر فى ذهنه باطلا: أن الإسلام هو الذى أقعد تركيا عن بلوغ نهضة أوربا ......".
وأبسط ما يقال في مناقشة هذا الرأى هو قول الدكتور التهامى:
"هل الحضارة الغربية المعاصرة مثالية رائدة مكتملة العناصر فى كل شىء وليس لنا من النماذج سواها, حتى نعيشها بمحاسنها ومساويها ؟ أهو التشبه بالامم الغالبة فى عادتها ومظاهر عيشها وإن كان يصطدم بأصول الدين والأخلاق والتقاليد عندنا, فنسلك مسالكهم حتى فى أوقات لهوهم و فراغهم؟
[18].

2. أما الاتجاه الثانى وهوالذى يحرمنا الاتصال بالغرب مطلقا, فلعل هؤلاء نسوا أن الإسلام يحثنا على اقتباس الحكمة والتقاتها من أى وعاء خرجت, وهى ضالة المؤمن أنى وجدها وهو أحق الناس بها, و أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر زيد بن ثابت أن يتعلم اللغة العبرانية, وهو المصطفى أيضا الذى أمرنا أن نطلب العلم ولو بالصين.
وينبهنا الدكتور توفيق الشاوى عن موقف هؤلاء قائلا:
"ولا ننسى أن ننبه بعض الإسلاميين ذوى العقول الجامدة الذين يدافعون عن التخلف ويصفونه بأنه إسلام, ولاحول ولا قوة الا بالله"
[19].

فبذلك ينبغى أن يكون موقفنا كما يقول الدكتور عمارة "وحقيقة نحن نحارب فى جبهتين, جبهة التغريب والاستلاب الحضارى والهيمنة الغربية, وجبهة الجمود, فإذا جاءنا النقد من هذين الفريقين, فنحن على الوسطية الإسلامية وعلى المنهاج الوسطى السليم"
[20].

ومن هذا المنطلق , حرصنا على تحديد تلك الخطوط العريضة لهذا الموقف الوسطى فى أبجديات التالية:
أولا: أن يكون نظر المسلم للغرب, نظرة الشفقة والرحمة المهداة؛ التى لا تقبل الخذلان والذلة, وهي نظرة الطبيب إلى المرضى أو نظرة الداعى إلى العاصى الحريص على هدايته وإعادته إلى الرشد, لا نظرة البغض والتعصب, وإن كان لابد من ذلك فليكن لله ولابتغاء مرضاته, وأن يكون شعاره دائما "اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون", وأن يكون هتافهم "بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا شريك به شيئا"
[21].

ثانيا: إن إعداد القوة الذى أمرنا الله به فى كل مجال واجب للمسلمين, من ضمن هذا الاعداد هو الاستفادة من الغرب بما يفيد الإسلام والمسلمين فى دنياهم وأخراهم, مع إبقاء الرووح المعنوية الربانية، والقيم الخلقية الإسلمية فى قلوبهم، واجتناب ما يكون سببا لدمار الشخصية الإسلامية وحضارته؛ فقد علمنا التاريخ أن جل العلماء المسلمين الذين نبغوا فى الرياضية، أو الفلق، أو الفيزياء، أو العلوم الطبيعية والصناعة، كان الجانب الروحى فيهم قويا منيعا, وكانوا يتعمقون فى فهم حكمة الخالق وأفعال الطبيعة, فلم يكونوا ماديين أم حسيين أو ملاحدة, لأن الصورة التى قدمها القرآن الكريم للإنسان يرتبط فيها كيانه الروحى, قال تعالى " هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ"
[22].وقال تعالى: " فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ"[23].
يقول ابن رشد فى كتابه فصل المقال: "... وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلا للنظر فيها –وهو الذى جمع أمرين: أحدهما: ذكاء الفطرة. والثانى: العدالة ا لشرعية، والفضيلة العلمية والخلقية فقد صد الناس عن الباب الذى دعا الشرع منه الناس..."
[24].
هذا جعل ابن رشد ذكاء الفطرة والعدالة الشرعية والفضيلة الخلقية شرطين أساسيين لدراسة الحكمة، وهذا يعنى أنه لا يجوز فصل القيم عن العلم فى الاسلام.

ثالثا: على المسلم أن يتغذى أولا من المبادىء قبل أن يغترف من المصادر الغربية, يقول الدكتور التهامى فى ذلك: "على شبابنا قبل أن يتمثل مكاسب الغرب وثقافته أن ينطلق من نواة أصيلة تضرب بجذورها فى الحركة العلمية الإسلامية فى تراثنا الأصيلة وأن يتغذى أولا من مبادىء قبل أن يغترف من المصادر الأجنبية ويتفتح على الأفكار والعلوم والتقنية الحديثة ضمانا للنمو والتطور والأصالة. فإن شجرة لا ترفع همتها إلا إذا ضربت بجذورها عميقا فى الأرض, وكذلك الاستنساخ الصرف لثقافة أجنبية يؤدى إلى مظهر مزيف سرعان ما يذبل"
[25].

رابعا: ويمكن تنفيذ الخطة السابقة عن طريق إرسال البعثة التعليمية المكثفة مع مراعات قوة شخصية المبعوثين, وأن يكون ذلك تحت إشراف الهيئآت الإسلامية المختصة.

خامسا: وفى المقابل، أن يكون إرسال بعثات الدعوية إلى الغرب, واحدا من أهم الأولويات فى العمل الإسلامى، وذلك لترشيد الصحوة الإسلامية من جديد فى الغرب ولإضاءة ذلك الظلام الدامس المادي الشاذ؛ ذلك الظلام الذى أشقى جل البشرية أجمع.

سادسا: أن يوقن المسلمون بأن من ضمن إيمانه بسنن الله فى الكون هو: أن النصر والقوة بيدهم ما داموا يأخذون أسبابها، وأن الحضارة الغربية مهما كانت قوةها فمصيرها إلى الزوال, وأن العاقبة دائما للمتقين مهما كان الطريق طويلا وشــــــاقا.


تتمـة
وإذا كان واقع المسلمين مؤلما, فلا بد لهم من أن يوصدوا النوافذ التى تعصف الريح السموم, وأن يخططوا الثورة البيضاء ضد الانهزامية والانحلالية, والركود, والجمود، واليأس. ثم البحث عن أساليب جديدة فى إطار الفكر الإسلامى المتفتح والمحرر من الخرافات ورواسب عهود الانحطاط, ومن المفاهيم الظرفية المسيطرة على عشاق الحضارة الغربية, وأخذ الدرس من أسلافنا لإحياء الشخصية المسلمة وانبعاث الفكر الإسلامى العريق، والتفادى من الوقوع فى أى تبعية.
فتعالوا معا نزرع الامل يا الاجيال ... !، فليكن البدء , إصـــلاح أنفسنا.
وآخر دعوانا عن الحمد لله رب العالمين.

الهوامش
[1] سورة البقرة: 143
[2] طه حسين, مستقبل الثقافة فى مصر: م 1 ص 45؛ نقلا عن الدكتور عمارة في "فكر التنوير بين العلمانيين و الإسلاميين", دار الوفاء و دار الصحوة, ص:39
[3] سلامة موسى, اليوم والغد, ص: 187، 188 و200؛ نقلا عن الدكتور محمد عمارة في "فكر التنوير" ص:53-54
[4] نفس المرجع.
[5] أحمد فون دنفر, التحاديات الثقافية المعاصرة التى تواجه الأمة الإسلامية، فى: "الإسلام والحضارة ودور الشباب المسلم", الندوة العالمية للشباب الإسلامى, ص:70
[6] سورة البقرة : 120
[7] سورة البقرة : 217
[8] البقرة : 109
[9] آل عمران :69
[10] آل عمران :118
[11] محمد قطب, الصراع بين الفكرى الغربي والفكرى الإسلامى, طبعة مكتبة السنة القاهرة، ص: 3 ومابعدها
[12] الدكتور يوسف القرضاوى, الإسلام حضارة الغد, مكتبة وهبة، القاهرة، ص: 13-25 (بشئ من التصرف)
[13] محمد عمارة، مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 104 السنة السادسة والعشرون، محرم-ربيع الأول 1423هـ، ص 8.
[14] المرجع السابق، ص 7، 9.
[15] الإسلام حضارة الغد، المرجع السابق ( بالتلخيص وبعض التصرف من ص: 29-31)
[16] المرجع السابق ص: 31-32
[17] أرنولد توينبى, الحضارة فى الميزان, (ت) محمود أمين شريف، مكتبة حلبي، القاهرة، ص: 16. (نقلا عن الدكتور التهامى نقرة فى "الإسلام و موقفنا من حضارة العصرى"، فى "الإسلام والحضارة ودور السباب المسلم", ص:146)
[18] المرجع السابق, ص: 146
[19] فكر التنوير بين العلمانيين و الإسلاميين, المرجع السابق، ص: 58
[20] المرجع السابق، ص: 71
[21] المباركفورى , الرجيق المختوم, دار القيمة، القاهرة، ص: 115
[22] هود: 61
[23] الحجر: 29
[24] ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من ا لاتصال، دراسة وتحقيق: الدكتور محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة، ص: 18، 19
[25] التهامى نقرة، المرجع السابق، ص: 157

No comments: